فصل: شهر ذي الحجة سنة 1213:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تاريخ الجبرتي المسمى بـ «عجائب الآثار في التراجم والأخبار» (نسخة منقحة)



.شهر القعدة سنة 1213:

واستهل شهر القعدة بيوم الأحد في سادسه يوم الجمعة حضرت هجانة من الفرنسيس ومعهم مكاتبة، مضمونها أنهم أخذوا حيفا وبعدها ركبوا على عكا وضربوا عليها وهدموا جانباً من سورها، وأنهم بعد أربعة وعشرين ساعة يملكونها، وأنهم استعجلوا في إرسال هذه الهجانة لطول المدة والانتظار لئلا يحصل لأصحابهم القلق، فكونوا مطمئنين وبعد سبعة أيام نحضر عندكم بسلام.
وفيه حضرت مغاربة حجاج الى بر الجيزة فتحدث الناس وكثر لغطهم وتقولوا بأنهم عشرون ألفاً حضروا لينقذوا مصر من الفرنسيس، فأرسل الفرنسيس للكشف عليهم فوجدوهم طائفة من خلايا وقرى فاس مثل الفلاحين، فأذنوا لهم في تعدية بعض أنفار منهم لقضاء أشغالهم، فحضر شخص منهم الى الفرنسيس ووشى إليهم أنهم قدموا لمحاربهتم والجهاد فيهم، وأنهم اشتروا خيلاً وسلاحاً وقصدهم إثارة فتنة، فأرسل الفرنسيس إليهم جماعة ينظرون في أمرهم فذهبوا إليهم وتكلموا معهم ومع كبيرهم وعن الذي نقل عنهم، فقالوا: إنما جئنا بقصد الحج لا لغيره. ثم رجعوا وصحبتهم كبير المغاربة فعملوا الديوان في صبحها وأحضروه، وكذلك أحضروا الرجل الذي وشى عليهم فتكلموا مع كبير المغاربة وسألوه وناقشوه فقال: إنا لم نأت إلا بقصد الحج، فقيل له ولأي شيء تشترون الأسلحة والخيول، فقال نعم لازم لنا ذلك ضرورة فقيل له إنه نقل عنكم أنكم تريدون محاربة الفرنساوية وتقولون الجهاد أفضل من الحج، فقال هذا كلام لا أصل له، فقيل له إن الناقل لذلك رجل منكم، فقال إن هذا الرجل حرامي أمسكناه بالسرقة وضربناه فحمله الحقد على ذلك وإن هذه البلاد ليست لنا ولا لسلطاننا حتى نقاتل عليها، ولا يصح أن نقاتلكم بهذه الشرذمة القليلة وليس معنا إلا نصف قنطار بارود، ثم اتفقوا معه على أن يجمعوا سلاحهم ويقيم كبيرهم عندهم رهينة حتى يعدى جماعته ويسافروا ويلحقهم بعد يومين بالسلاح، فأجابهم الى ذلك، فشكروه وأهدوا له هدية، فلما كان يوم السبت خرجت عدة من العسكر الى بولاق ومعهم مدفعان ليقفوا للمغاربة حتى يعدوا البحر ويمشوا معهم الى العادلية، فلما رأى الناس خروج العسكر والمدافع فزعوا في المدينة وبولاق ورمحوا كعادتهم في كرشاتهم وصياحهم وأشاعوا أن الفرنسيس خرجت لقتال المغاربة فأغلقوا غالب الأسواق والدكاكين وأمثال ذلك من تخيلاتهم، فلم يعد المغاربة ذلك اليوم وعدوا في ثاني يوم ومشى معهم عسكر الفرنسيس الى العادلية وهم يضربون الطبول وأمامهم مدفع وخلفهم مدفع مع جملة من العساكر.
وفي يوم الثلاثاء عاشره سافر عدة من عسكر الفرنسيس الى عرب الجزيرة فإن مصطفى بك كتخدا الباشا ذهب إليهم والتجأ لهم فعينوا عليهم تلك العساكر.
وفي يوم الأربعاء فرجوا عن جماعة من القليونجية وغيرهم الذين كانوا محبوسين بالقلعة وفيهم المعلم نقولا النصراني الأرمني الذي كان رئيس مركب مراد بك الحربية التي أنشأها بالجيزة وأسكنوه ببيت حسن كتخدا بباب الشعرية.
وفيه حضر بن شديد شيخ عرب الحويطات بأمان وكان عاصياً فأعطوه الأمان وخلعوا عليه وسفروا معه قافلة دقيق وبقسماط العسكر بالشام.
وفي يوم السبت حادي عشرينه، حضر مجلون من الناحية القبلية وصحبته أموال البلاد والغنائم من بهائم وخلافها.
وفيه عملوا كرنتيلة عند العادلية لمن يأتي من بر الشام من العسكر الى ناحية شرق اطفيح بسبب محمد بيك الألفي.
وفيه حضر الذين كانوا ذهبوا الى عرب الجزيرة فضربوهم ونالوا منهم بعض النيل وأما مصطفى بك فلم تعلم عنه حقيقة حال قيل إنه ذهب الى الشام.
وفي خامس عشرينه، وصلت مراسلة من المذكور خطاباً للمشايخ بالشام ويرجون الإفراج عن قريبه وكتخدائه ويتحفظون على الأمتعة التي أخذوها فإنها من متعلقات الدولة، فلما أطلعوهم على تلك المكاتبة قالوا لا يمكن الإفراج عن المذكورين حتى نتحقق أنه ذهب الى ساري عسكر ويأتينا منه خطاب في شأنه فإنه من الجائز أنه يكذب في قوله.
وفيه ثبت أن محمد بك الألفي مر من خلف الجبل وذهب الى عرب الجزيرة ومعه من جماعته نحو المائة وقيل أكثر، والتف عليه الكثير من الغز والمماليك المشردين بتلك النواحي، وقدم له العربان التقادم والكف فأرسل له الفرنسيس عدة من العسكر.
وفي سابع عشرينه، لخص الفرنساوية طوماراً قرئ بالديوان وطبع منه عدة نسخ وألصقت بالأسواق على العادة، وكان الناس أكثروا من اللغط بسبب انقطاع الأخبار عن الفرنسيس المحاصرين لعكا والروايات عمن بالصعيد والكيلاني والأشراف الذين معه وغير ذلك.
وصورتها: من محفل الديوان الكبير بمصر، بسم الله الرحمن الرحيم ولا عدوان إلا على الظالمين، نخبر أهل مصر أجمعين أنه حضر جواب من عكا من حضرة ساري عسكر الكبير خطاباً منه الى حضرة ساري عسكر الوكيل بثغر دمياط تاريخه تاسع القعدة سنة تاريخه. يخبر فيه أننا أرسلنا لكم نقيرتين لدمياط، الأولى أرسلنا في خمسة وعشرين شوالاً والثانية في ثمانية وعشرين منه، أخبرناكم فيهما عن مطلوبنا إرسال جانب جلل وذخائر الى عساكرنا المحافظين في غزة ويافا لأجل زيادة المحافظة والصيانة، وأما من قبل العرضي فإن الجلل عندنا كثيرة والذخائر والمآكل والمشارب والخيرات غزيرة، حتى أنها زادت عندنا الجلل بكثرة جمعناها مما رمته الأعداء فكأن أعداءنا أعانونا، ونخبركم أننا عملنا لغماً مقدار عمقه ثلاثون قدماً، وسرنا به حتى قربناه الى السور الجواني بمسافة نحو ثمانية عشر قدماً وقد قربت عساكرنا من الجهة التي تحارب فيها حتى صار بينهم وبين السور ثمانية وأربعون قدماً بمشيئة الله تعالى، عند وصول كتابنا إليكم وقبل إتمام قراءته عليكم نكون ظافرين بملك قلعة عكا أجمعين، فإننا تهيأنا الى دخولها يأتيكم خبر ذلك بعد هذا الكتاب، وأما بقية إقليم الشام وما يلي عكا من البلاد فإنهم لنا طائعون وبالاعتناء ومزيد المحبة راغبون، يأتوننا بكل خير عظيم ويحضرون لنا أفواجاً بالهدايا الكثيرة والحب الجسيم من القلب السليم، وهذا من فضل الله علينا ومن شدة بغضهم الجزار باشا، ونخبركم أيضاً أن الجنرال بونوت انتصر على أربعة آلاف مقاتل حضروا من الشام خيالة ومشاة فقابلهم بثلثمائة عسكري مشاة من عسكرنا فكسروا التجريدة المذكورة وأوقع منهم نحو ستمائة نفس ما بين مقتول ومجروح، وأخذ منهم خمسة بيارق وهذا أمر عجيب لم يقع نظيره في الحروب، أن ثلثمائة نفس تهزم نحو أربعة آلاف نفس، فعلمنا أن النصرة من عند الله لا بالقلة ولا بالكثرة هذا آخر كتاب ساري عسكر الكبير الى وكيله بدمياط، وأرسل إلينا بالديوان حضرة الوكيل ساري عسكر دوجا الوكيل بمصر المحروسة يخبرنا بصورة هذا المكتوب ويأمرنا أننا نلزم الرعايا من أهل مصر والأرياف أن يلزموا الأدب والإنصاف ويتركوا الكذب والخراف، فإن كلام الحشاشين يوقع الضرر للناس المعتبرين، فإن حضرة ساري عسكر دوجا الوكيل بلغه أن أهل مصر وأهل الأرياف يتكلمون بكلام لا أصل له من قبل الأشراف، والحال أن الأشراف الذين يذكرونهم ويكذبون عليهم جاءت أخبارهم من حضرة ساري عسكر الصعيد، يخبر الوكيل دوجا بأن الأشراف المذكورين الذين صحبة الكيلاني قد مزقوا كل ممزق وانهزموا وتفرقوا فلم يكن الآن في بلاد الصعيد شيء يخالف المراد، وسلم من الفتن والعناد، فأنتم يا أهل مصر ويا أهل الأرياف اتركوا الأمور التي توقعكم في الهلاك والتلاف وامسكوا أدبكم قبل أن يحل بكم الدمار ويلحقكم الندم والعار، والأولى للعاقل اشتغاله بأمر دينه ودنياه وأن يترك الكذب وأن يسلم لأحكام الله وقضاه، فإن العاقل يقرأ العواقب وعلى نفسه يحاسب هذا شأن أهل الكمال يتركون القيل والقال ويشتغلون بإصلاح الأحوال ويرجعون الى الكبير المتعال والسلام.
وفي هذا الشهر كتبوا أوراقاً بأوامر، ونصها: من محفل الديوان العمومي الى جميع سكان مصر وبولاق ومصر القديمة، إننا قد تأملنا وميزنا أن الواسطة الأقرب والأيمن لتلطيف أو لمنع الخطر الضروري وهو تشويش الطاعون عدم المخالطة مع النساء المشهورات لأنهن الواسطة الأولى للتشويش المذكور، فلأجل ذلك حتمنا ورتبنا ومنعنا الى مدة ثلاثين يوماً من تاريخه أعلاه لجميع الناس، إن كان فرنساوياً أو مسلماً أو رومياً أو نصرانياً أو يهودياً من أي ملة كان، كل من أدخل الى مصر أو بولاق أو مصر القديمة النساء المشهورات إن كان في بيوت العسكر أو من كان داخل المدينة فيكون قصاصه بالموت، كذلك من قبل النساء والبنات المشهورات بالعسكر إن دخلن من أنفسهن أيضاً يقاصصن بالموت.
من حوادث هذا الشهر، أنه حضر الى القلزم مركبان انكليزيان وقيل أربعة ووقفوا قبالة السويس وضربوا مدافع، ففر أناس من سكان السويس الى مصر وأخبروا بذلك أنهم صادفوا بعض داوات تحمل البن والتجارة فحجزوها ومنعوها من الدخول الى السويس.
ومنها أن طائفة من عرب البحيرة يقال لهم عرب الغز جاءوا وضربوا دمنهور وقتلوا عدة من الفرنسيس وعاثوا في نواحي تلك البلاد حتى وصلوا الى الرحمانية ورشيد وهم يقتلون من يجدونه من الفرنسيس وغيرهم وينهبون البلاد والزروعات.
ومنها أن الكيلاني المذكور آنفاً توفي الى رحمة الله تعالى وتفرقت طائفته في البلاد، حتى أنه حضر منهم جملة الى مصر وكان أكثر من يخامر عليهم أهل بلاد الصعيد فيوهمونهم معاونتهم وعند الحروب يتخلون عنهم وبعض البلاد يضيفون ويسلط عليهم الفرنسيس فيقبضون عليهم.
ومنها أنه حضر الى مصر الأكثر من عسكر الفرنسيس الذين كانوا بالجهة القبلية وضربوا في حال رجوعهم بني عدي من بلاد الصعيد مشهورة، وكان أهلها ممتنعين عليهم في دفع المال والكلف ويرون في أنفسهم الكثرة والقوة والمنعة، فخرجوا عليهم وقاتلوهم فملك عليهم الفرنسيس تلاً عالياً وضربوا عليهم بالمدافع فأتلفوهم وأحرقوا جرونهم، ثم كبسوا عليهم وأسرفوا في قتلهم ونهبهم وأخذوا شيئاً كثيراً وأموالاً عظيمة وودائع جسيمة للغز وغيرهم من مساتير أهل البلاد القبلية لظن منعتهم وكذلك فعلوا بالميمون.

.شهر ذي الحجة سنة 1213:

واستهل شهر ذي الحجة بيوم الثلاثاء في ثانيه خرج نحو الألف من عسكر الفرنسيس للمحافظة على البلاد الشرقية لتجمع العرب والمماليك على الألفي وكذلك تجمع الكثير من الفرنسيس وذهبوا الى جهة دمنهور، وفعلوا بها ما فعلوا في بني عدي من القتل والنهب لكونهم عصوا عليهم، بسبب أنه ورد عليهم رجل مغربي يدعى المهدوية ويدعو الناس ويحرضهم على الجهاد وصحبته نحو الثمانين نفراً، فكان يكاتب أهل البلاد ويدعوهم الى الجهاد، فاجتمع عليه أهل البحيرة وغيرهم وحضروا الى دمنهور وقاتلوا من بها من الفرنساوية واستمر أياماً كثيرة تجتمع عليه أهل تلك النواحي وتفترق والمغربي المذكور تارة يغرب وتارة يشرق.
وفيه أشيع أن الألفي حضر الى بلاد الشرقية وقاتل من بها من الفرنسيس ثم ارتحل الى الجزيرة.
وفي سابعه حضر جماعة من فرنسيس الشام الى الكرنتيلة بالعادلية وفيهم مجاريح وأخبر عنهم بعضهم أن الحرب لم تزل قائمة بينهم وبين أحمد باشا بعكا وأن مهندس حروبهم المعروف بأبي خشبة عند العامة واسمه كفرللي مات وحزنوا لموته، لأن كان من دهاتهم وشياطينهم وكان له معرفة بتدبير الحروب ومكايد القتال وإقدام عن المصاف مع ما ينضم لذلك من معرفة الأبنية وكيفية وضعها وكيفية أخذ القلاع ومحاصرتها.
وفي يوم الأربعاء كان عيد النحر وكان حقه يوم الخميس وعند الغروب من تلك الليلة ضربوا مدافع من القلعة أعلاماً بالعيد وكذلك عند الشروق ولم يقع في ذلك العيد أضحية على العادة لعدم المواشي لكونها محجزوة في الكرنتيلة في شغل عن ذلك.
ومن الحوادث في ذلك اليوم أن رجلاً رومياً من باعة الرقيق عنده غلام مملوك ساكن في طبقة بوكالة ذي الفقار بالجمالية خرج لصلاة العيد ورجع الى طبقته فوجد ذلك الغلام متقلداً بسلاح ومتزيياً بمثل ملابس القليونجية، فقال له من أين لك هذا اللباس، فقال من عند جارنا فلان العسكري، فأمره بنزع ذلك لم يستمع له ولم ينزعها فشتمه ولطمه على وجهه، فخرج من الطبقة وحدثته نفسه بقتل سيده ورجع يريد ذلك، فوجد عند سيده ضيفاً فلم يتجاسر عليه لحضور ذلك الضيف، فوقف خارج الباب ورآه سيده فعرف من عينه الغدر، فلما قام ذلك الضيف قام معه وخرج وأغلق الباب على الغلام فصعد الغلام على السطح وتسلق الى سطح آخر ثم تدلى بحبل الى أسفل الخان وخرج الى السوق وسيفه مسلول بيده ويقول: الجهاد يا مسلمين اذبحوا الفرنسيس ونحو ذلك من الكلام، ومر الى جهة الغورية فصادف ثلاثة أشخاص من الفرنسيس فقتل منهم شخصاً وهرب الإثنان ورجع على إثره والناس يعدون خلفه من بعد الى أن وصل الى درب بالجمالية غير نافذ، فدخله وعبر الى دار وجدها مفتوحة وربها واقف على بابها، والفرنسيس تجمع منهم طائفة وظنوا ظنوناً أخر وبادروا الى القلاع وحضرت منهم طائفة من القلق يسألون عن ذلك المملوك، وهاجت العامة ورمحت الصغار وأغلق بعض الناس حوانيتهم، ثم لم تزل الفرنسيس تسأل عن ذلك المملوك والناس يقولون لهم ذهب من هنا حتى وصلوا الى ذلك الدرب، فدخلوه فلما أحس بهم نزع ثيابه وتدلى ببئر في تلك الدار فدخلوا الدار وأخرجوه من البئر وأخذوه، وسكنت الفتنة فسألوه عن أمره وما السبب في فعله ذلك.
فقال إنه يوم الأضحية فأحببت أن أضحي على الفرنسيس، وسألوه عن السلاح، فقال إنه سلاحي فجسوه لينظروا في أمره وطلبوا سيده فوجدوه عند الشيخ المهدي، وأخذوا بعض جماعة من أهل الخان ثم أطلقوهم بدون شرر، وأخذوا سيده من عند المهدي وحبسوه، وحضر الآغا وبرطلمين الى الخان بعد العشاء وطلبوا البواب والخانجي والجيران وصعدوا الى الطباق وفتشوا على السلاح حتى قلعوا البلاط فلم يجدوا شيئاً، وأرادوا فتح الحواصل فمنعهم السيد أحمد بن محمود محرم فخرجوا وأخذوا معهم الخانجي وجيران الطبقة وجملة أنفار وحبسوهم أيضاً، وقتلوا المملوك في ثاني يوم، واستمر الجماعة في الحبس الى أن أطلقوهم بعد أيام عديدة من الحادثة.
وفي ذلك اليوم أيضاً مر نصراني من الشوام على المشهد الحسيني وهو راكب على حمار فرآه ترجمان ضابط الخطة ويسمى السيد عبد الله فأمره بالنزول إجلالاً للمشهد على العادة. فامتنع فانتهزه وضربه وألقاه على الأرض، فذهب ذلك النصراني الى الفرنسيس وشكا إليهم السيد عبد الله المذكور فأحضروه وحبسوه فشفع فيه مخدومه فلم يطلقوه، وادعى النصراني أنه كان بعيداً عن المشهد وأحضر من شهد له بذلك وأن السيد عبد الله متهور في فعله، وادعى أنه ضاع له وقت ضربه دراهم كانت في جيبه واستمر الترجمان محبوساً عدة أيام حتى دفع تلك الدراهم وهي ستة آلاف درهم.
وفيه أرسل فرنسيس مصر الى رئيس الشام ميرة على جمال العرب نحو الثمانمائة جمل وذهب صحبتها برطلمين وطائفة من العسكر فأوصلوها الى بلبيس ورجعوا بعد يومين.
وفيه حضر الى السويس تسعة داوات بها بن وبهار وبضائع تجارية وفيها لشريف مكة نحو خمسمائة فرق بن، وكانت الانكليز منعتهم الحضور فكاتبهم الشريف فأطلقوهم بعد أن حددوا عليهم أياماً مسافة التنقيل والشحنة، وأخذوا منهم عشوراً وسامح الفرنسيس بن الشريف من العشور لأنه أرسل لهم مكاتبة بسبب ذلك وهدية قبل وصول المراكب الى السويس بنحو عشرين يوماً، وطبعوا صورتها في أوراق وألصقوها بالأسواق وهي خطاب لبوسليك.

.من مات في هذه السنة من الأعيان ومن له ذكر في الناس:

مات الإمام العمدة الفقيه العلامة المحقق الفهامة المتقن المتفنن المتجرعين أعيان الفضاء الأزهرية الشيخ أحمد بن موسى بن أحمد بن محمد البيلي العدوي المالكي، ولد ببني عدي سنة إحدى وأربعين ومائة وألف وبها نشأ فقرأ القرآن، وقدم الجامع الأزهر ولازم الشيخ علي الصعيدي ملازمة كلية حتى تمهر في العلوم وبهر فضله في الخصوص والعموم، وكان له قريحة جيدة وحافظة غريبة يملي في تقريره خلاصة ما ذكره أرباب الحواشي مع حسن سبك والطلبة يكتبون ذلك بين يديه، وقد جمع من تقاريره على عدة كتب كان يقرأها حتى صارت مجلدات وانتفع بها الطلبة انتفاعاً عاماً، ودرس في حياة شيخه سنيناً عديدة واشتهر بالفتوح وكان الشيخ الصعيدي يأمر الطلبة بحضوره وملازمته، وكان في اتصاف زائد وتؤدة ومروءة، وتوجه الى الحق ولديه أسرار ومعارف وفوائد وتمائم وعلم بتنزيل الأوفاق والوفق المئيني العددي والحرفي وطرائق تنزيله بالتطويق والمربعات وغير ذلك، ولما توفي الشيخ محمد حسن جلس موضعه للتدريس بإشارة من أهل الباطن، ولما توفي الشيخ أحمد الدردير ولى مشيخة رواق الصعايدة وله مؤلفات منها مسائل كل صلاة بطلت على الإمام وغير ذلك. ولم يزل على حالته وإفادته وملازمة دروسه والجماعة حتى توفي في هذه السنة ودفن في تربة المجاورين رحمة الله تعالى عليه.
ومات العلامة الفاضل الفقيه الشيخ أحمد بن ابراهيم الشرقاوي الشافعي الأزهري، قرأ على والده وتفقه وأنجب ولم يزل ملازماً لدروسه حتى توفي والده فتصدر للتدريس في محله. واجتمعت عليه طلبة أبيه وغيرهم، ولازم مكانه بالأزهر طول النهار يملي ويفيد ويفتي على مذهبه ويأتي إليه الفلاحون من جيزة بلاده بقضاياها وخصوماتهم وأنكحتهم فيقضي بينهم ويكتب لهم الفتاوى في الدعاوى التي يحتاجون فيها الى المرافعة عند القاضي، وربما زجر المعاند منهم وضربه وشتمه، ويسمعون لقوله ويمتثلون لأحكامه، وربما أتوه بهدايا ودراهم. واشتهر ذكره وكان جسيماً عظيم اللحية فصيح اللسان، ولم يزل على حالته حتى اتهم في فتنة الفرنسيس المتقدمة ومات مع من قتل بيد الفرنساوية بالقلعة ولم يعلم له قبر.
ومات الشيخ الإمام العمدة الفقيه الصالح القانع الشيخ عبد الوهاب الشبراوي الشافعي الأزهري تفقه على أشياخ العصر وحضر دروس الشيخ عبد الله الشبراوي والحفني والبراوي وعطية الأجهوري، وغيرهم وتصدر للإقراء والتدريس والإفادة بالجوهرية وبالمشهد الحسيني ويحضر درسه فيه الجم الغفير من العامة ويستفيدون منه ويقرأ به كتب الحديث كالبخاري ومسلم، وكان حسن الإلقاء سلس التقرير جيد الحافظة جميل السيرة مقبلاً على شأنه، ولم يزل ملازماً على حالته حتى اتهم في إثارة الفتنة وقتل بالقلعة شهيداً بيد الفرنسيس في أواخر جمادى الأولى من السنة، ولم يعلم له قبر.
ومات الشاب الصالح والنبيه الفالح الفاضل الفقيه الشيخ يوسف المصيلحي الشافعي الأزهري. حفظ القرآن والمتون وحضر دروس أشياخ العصر كالشيخ الصعيدي واليراوي والشيخ عطية الأجهوري والشيخ أحمد العمروسي وحضر الكثير على الشيخ محمد المصيلحي، وأنجب وأملى دروساً بجامع الكردي بسويقة اللالا، وكان مهذب النفس لطيف الذات حلو الناطقة مقبول الطلعة خفيف الروح ولم يزل ملازماً على حاله، حتى اتهم أيضاً في حادثة الفرنسيس وقتل مع من قتل شهيداً بالقلعة.
ومات العمدة الشهير الشيخ سليمان الجوسقي شيخ طائفة العميان بزاويتهم المعروفة الآن بالشنواني، تولى شيخاً على العميان المذكورين بعد وفاة الشيخ الشبراوي وسار فيهم بشهامة وصرامة وجبروت وجمع بجاههم أموالاً عظيمة وعقارات، فكان يشتري غلال المستحقين المعطلة بالأبعاد بدون الطفيف ويخرج كشوفاتها وتحاويلها على الملتزمين ويطالبهم بها كيلاً وعيناً، ومن عصى عليه أرسل إليه الجيوش الكثيرة من العميان فلا يجد بداً من الدفع، وإن كانت غلاله معطلة صالحة بما أحب من الثمن، وله أعوان يرسلهم الى الملتزمين بالجهة القبلية يأتون إليه بالسفن المشحونة بالغلال والمعاوضات من السمن والعسل والسكر والزيت وغير ذلك، ويبيعها في سني الغلوات بالسواحل والرقع بأقصى القيمة، ويطحن منها على طواحينه دقيقاً ويبيع خلاصته في البطط بحارة اليهود ويعجن نخالته خبزاً لفقراء العميان يتقوتون به مع ما يجمعونه من الشحاذة في طوافهم آناء الليل وأطراف الهار بالأسواق والأزقة وتغنيهم بالمدائح والخرافات وقراءة القرآن في البيوت ومساطب الشوارع وغير ذلك ومن مات منهم ورثة الشيخ المترجم المذكور وأحرز لنفسه ما جمعه ذلك الميت، وفيهم من وجد له الموجود العظيم ولا يجد له معارضاً في ذلك، واتفق أن الشيخ الحفني نقم عليه في شيء فأرسل إليه من أحضره موثوقاً مكشوف الرأس مضروباً بالنعالات على دماغه وقفاه من بيته الى بيت الشيخ بالموسكي بين ملأ العالم، ولما انقضت تلك السنون وأهلها صار المترجم من أعيان الصدور المشار إليهم في المجالس تخشى سطوته وتسمع كلمته، ويقال قال الشيخ كذا وكذا وأمر الشيخ بكذا وصار يلبس الملابس والفراوي ويركب البغال وأتباعه محدقة به. وتزوج الكثير من النساء الغنيات الجميلات واشترى السراري البيض والحبش والسود، وكان يفرض الأكابر المقادير الكثيرة من المال ليكون له عليهم الفضل والمنة، ولم يزل حتى حمله التفاخر في زمن الفرنسيس على تولية كبر إثارة الفتنة التي أصابته وغيره، وقتل فيمن قتل بالقلعة ولم يعلم له قبر، وكان ابنه معوقاً ببيت البكري فلما علم بموته قلق وكاد يخرج من عقله خوفاً على ما يعلم مكانه من مال أبيه حتى خلص في ثاني يوم بشفاعة المشايخ ولم يكن مقصوداً بالذات، بل حضر ليعود أباه فحجزه القومة عليهم زيادة في الاحتياط.
ومات الأجل المفوه العمدة الشيخ إسمعيل البراوي بن أحمد البراوي الشفعي الأزهري وهو ابن أخي الشيخ عيسى البراوي الشهير الذكر، تصدر بعد وفاة والده في مكانه وكان قليل البضاعة إلا أنه تغلب عليه النباهة واللسانة والسلاطة، والتداخل، وذلك هو الذي أوقعه في حبائل الفرنساوية وقتل مع من قتل شهيداً ولم يعلم له قبر غفر الله لنا وله.
ومات الوجيه الأجل الأمثل السيد محمد كريم، وخبره أنه كان في أول أمره قبانياً يزن البضائع في حانوت بالثغر، وعنده خفة في الحركة وتودد في المعاشرة، فلم يزل يتقرب الى الناس بحسن التودد ويستجلب خواطر حواشي الدولة وغيرهم: من تجار المسلمين والنصارى ومن له وجاهة وشهرة في أبناء جنسه حتى أحبه واشتهر ذكره في ثغر الإسكندرية، ورشيد ومصر، واتصل بصالح بك حتى كان وكيلاً بدار السعادة وله الكلمة النافذة في ثغر رشيد وتملكها وضواحيها، واسترق أهلها وقلد أمرها لعثمان خجا فاتحد به وبمخدومه السيد محمد المذكور واتصل بمراد بك بعد صالح آغا فتقرب إليه ووافق منه الغرض، ورفع شأنه على أقرانه وقلده أمر الديوان والجمارك بالثغر، ونفذت كلمته وأحكامه وتصدر لغالب الأمور وزاد في المكوسات والجمارك ومصادرات التجار خصوصاً من الإفرنج، ووقع بينه وبين السيد شهبة الحادثة التي أوجبت له الاختفاء بالصهريج وموته فيه، فلما حضر الفرنسيس ونزلوا الإسكندرية قبضوا على السيد محمد المذكور وطالبوه بالمال وضيقوا عليه وحبسوه في مركب، ولما حضروا الى مصر وطلعوا الى قصر مراد بك وفيها مطالعته بأخبارهم وبالحث والاجتهاد على حربهم وتهوين أمرهم وتنقيصهم، فاشتد غيظهم عليه فأرسلوا وأحضروه الى مصر وحبسوه، فتشفع فيه أرباب الديوان عدة مرار فلم يمكن الى أن كانت ليلة الخميس. فحضر إليه مجلون وقال له: المطلوب منك كذا وكذا من المال، وذكر له قدراً يعجز عنه وأجله اثنتي عشرة ساعة، وإن لم يحضر ذلك القدر وإلا يقتل بعد مضيها، فلما أصبح أرسل الى المشايخ والى اسيد أحمد المحروقي فحضر إليه بعضهم فترجاهم وتداخل عليهم واستغاث وصار يقول لهم اشتروني يا مسلمون، وليس بيدهم ما يفتدونه به، وكل إنسان مشغول بنفسه ومتوقع لشيء يصيبه، وذلك في مبادئ أمرهم، فلما كان قريب الظهر وقد انقضى الأجل أركبوه حماراً واحتاط به عدة من العسكر وبأيديهم السيوف المسلولة، ويقدمهم طبل يضربون عليه وشقوا به الصليبة الى أن ذهبوا الى الرميلة وكتفوه وربطوه مشبوحاً وضربوا عليه بالبنادق كعادتهم فيمن يقتلونه، ثم قطعوا رأسه ورفعوها على نبوت وطافوا بها بجهات الرميلة والمنادي يقول: هذا جزاء من يخالف الفرنسيس، ثم إن أتباعه أخذوا رأسه ودفنوها مع جثته. وانقضى أمره وذلك يوم الخميس خامس عشر ربيع الأول.
ومات الأمير ابراهيم بك الصغير المعروف بالوالي وهو من مماليك محمد بك أبي الذهب. وتقلد الزعامة بعد موت أستاذه ثم تقلد الإمارة والصنجقية في أواخر جمادى الأولى سنة 1192. وهو أخو سليمان بك المعروف بالآغا، وعندما كان هو والياً كان أخوه أغات مستحفظان وأحكام مصر والشرطة بينهما، وفي سنة سبع وتسعين تعصب مراد بك وابراهيم بك على المترجم وأخرجوه منفياً هو وأخوه سليمان بك وأيوب بك الدفتردار، ولما أمروه بالخروج ركب في طوائفه ومماليكه وعدى الى بر الجيزة، فركب خلفه علي بك أباظة ولاجين بك ولحقوا حملته عند المعادي فحجزوها وأخذوها وأخذوا هجنه ومتاعه وعدوا خلفه فأدركوه عند الأهرام فاحتالوا عليه وردوه الى قصر العيني، ثم سفروه الى ناحية السرو ورأس الخليج فأقام بها أياماً وكان أخوه سليمان بك بالمنوفية فلما أرسلوا بنفيه الى المحلة ركب بطوائفه وحضر الى مسجد الخضيري، وحضر إليه أخوه المترجم وركبا معاً وذهبا الى جهة البحيرة، ثم ذهبا الى طندتا، ثم ذهبا الى شرقية بلبيس، ثم توجها من خلف الجبل الى جهة قبلي وكان أيوب بك بالمنصورة فلحق بهما أيضاً وكان بالصعيد عثمان بك الشرقاوي ومصطفى بك فالتفا عليهما وعصى الجميع وأرسل مراد بك وابراهيم بك محمد كتخدا أباظة وأحمد آغا شويكار الى عثمان بك ومصطفى بك يطلبانهما الى الحضور، فأبيا وقالا: لا نرجع الى مصر إلا بصحبة إخواننا وإلا فنحن معهم أينما كانوا، ورجع المذكوران بذلك الجواب، فجهزوا لهم تجريدة وسافر بها ابراهيم بك الكبير وضمهم وصالحهم وحضر بصحبة الجميع الى مصر فحنق مراد بك ولم يزل حتى خرج مغضباً الى الجيزة، ثم ذهب الى قبلي وجرى بينهما ما تقدم ذكره من إرسال الرسل ومصالحة مراد بك ورجوعه وإخراج المذكورين ثانياً فخرجوا الى ناحية القليوبية وخرج مراد بك خلفهم، ثم رجعوهم الى جهة الأهرام وقبض مراد بك عليهم ونفيهم الى جهة بحري، وأرسل المترجم الى طندتا ثم ذهبوا الى قبلي خلا مصطفى بك وأيوب بك ثم رجعوا الى مصر بعد خروج مراد بك الى قبلي واستمر أمرهم على ما ذكر، حتى ورد حسين باشا وخرج الجميع، وجرى ما تقدم ذكره وتولى المترجم إمارة الحاج ولم يسافر به، ولما رجعوا الى مصر بعد الطاعون وموت إسمعيل بك ورجب بك صاهره ابراهيم بك الكبير وزوجه ابنته كما تقدم، ولم يزل في سيادته وإمارته حتى حضر الفرنساوية ووصلوا الى بر انبابة، ومات هو في ذلك اليوم غريقاً، ولم تظهر رمته وذلك يوم السبت سابع صفر من السنة.
ومات الأمير علي بك الدفتردار المعروف بكتخدا الجاويشية وأصله مملوك سليمان أفندي من خشداشين كتخدا ابراهيم القازدغلي وكان سيده المذكور رغب عن الإمارة ورضي بحاله وقنع بالكفاف ورغب في معاشرة العلماء والصلحاء، وفي الانجماع عن أبناء جنسه والتداخل في شؤونهم، وكان يأتي في كل يوم الى الجامع الأزهر ويحضر دروس العلماء ويستفيد من فوائدهم ولازم دروس الشيخ أحمد السليماني من الفقه الحنفي الى أن مات، فتقيد بحضور تلميذه الشيخ أحمد الغزي كذلك، واقترن في حضوره بالشيخ عبد الرحمن العريشي وكان إذ ذاك مقتبل الشبيبة مجرداً عن العلائق فكان يعيد معه الدروس، فاتحد به لما رأى فيه من النجابة فجذبه الى داره وكساه وواساه، واستمر يطالع معه في الفقه ويعيد معه الدروس ليلاً وزوجه وأغدق عليه، وكان هو مبدأ زواجه ولم يزل ملازماً حتى توفي سليمان أفندي المذكور في سنة 1175 فتزوج المترجم بزوجة سيده واستمر هو وخشداشه الأمير أحمد بمنزل أستاذهما وتتوق نفس المترجم للترفع والإمارة، فتردد الى بيوت الأمراء كغيره من الأجناد، فقلده علي بك الكبير كشوفية شرق أولاد يحيى في سنة 1182 فتقلدها بشهامة وقتل البغاة، وأخاف الناحية وجمع منها أموالاً واستمر حاكمها بها الى أن خالف محمد بك أبو الذهب على سيده علي بك. وخرج من مصر الى الجهة القبلية، فلما وصل الى الناحية كان المترجم أول من أقبل عليه بنفسه وما معه من المال والخيام، فسر به محمد بك وقربه وأدناه ولم يزل ملازماً لركابه حتى جرى ما جرى، وتملك محمد بك الديار المصرية فقلده أغاوية المتفرقة أياماً قليلة، ثم خيره في تقليد الصنجقية أو كتخدا الجاويشية، فقال له حتى استخير في ذلك، وحضر الى المرحوم الشيخ الوالد وذكر له ذلك فأشار عليه بأن يتقلد كتخدا الجاويشية فإنه منصب جليل واسع الإيراد وليس على صاحبه تعب ولا مشقة غفر ولا سفر تجاريد ولا كثرة مصايف، فكان كذلك، وذلك في سنة ست وثمانين وسكن ببيت سليمان آغا كتخدا الجاويشية بدرب الجماميز على بركة الفيل، ونما أمره واتسع حاله واشتهر وانتظم في عداد الأمراء، ولم يزل على ذلك الى أن مات محمد بك فاستقل بإمارة مصر ابراهيم بك ومراد بك فكان المترجم ثالثهما، واتحد بابراهيم بك اتحاداً عظيماً حتى كان ابراهيم بك لا يقدر على مفارقته ساعة زمانية، وصار معه كالأخ الشقيق والصاحب الشفيق وصار في قبول ووجاهة عظيمة وكلمة نافذة في جميع الأمور ولم يزل على ذلك حتى حضر حسن باشا بالصورة المتقدمة وخرج ابراهيم بك ومراد بك وباقي الأمراء، فتخلف عنهم المترجم، وقد كان راسل حسن باشا سراً، فلما استقر حسن باشا أقبل عليه وسلمه مقاليد الأمور وقلده الصنجقية وأضاف إليه الدفتردارية وفوض إليه جميع الأمور الكلية والجزئية، فانحصرت فيه رياسة مصر وصار عزيزها وأميرها ووزيرها وقائد جيوشها ولا يتم أمر إلا عن مشورته ورأيه، واجتمع ببيته الدواوين وقلد الأمريات والمناصب كما يختار، وقرب وأدنى وأبعد وأقصى من يختار، واشتهر ذكره في إقليم مصر والشام والروم وأشار بتقليد مراد كاشف الصنجقية وإمارة الحاج وسموه محمد بك المبدول كراهة في اسم مراد، واشتهر بالمبدول ونجز له لوازم الحاج والصرة في أيام قليلة، وسافر بالحاج على النسق المعتاد وشهل أيضاً التجاريد والعساكر خلف الأمراء المطرودين واستمر مطلق التصرف في مملكة مصر بقية السنة.
ولما استهل رمضان أرسل لجميع الأمراء والأعيان البلكات والكساوي لهم ولحريمهم ومماليكهم بالأحمال وكذلك الى العلماء والمشايخ حتى الفقهاء الخاملين المحتاجين، وظن أن الوقت قد صفا له ولم يزل على ذلك حتى استقر إسمعيل بك وسافر حسن باشا وظهر له أمر حسن بك الجداوي وخشداشينه أخذ يناكد المترجم ويعارضه في جميع أموره وهو يسامح له في كل ما يتعرض له فيه ويساير حاله بينهم ويكظم غيظه ويكتم قهره، وهو مع ذلك وافر الحرمة، واعتراه صداع في رأسه وشقيقة زاد ألمه بها ووجعه أشهراً وأتلف إحدى عينيه وعوفي قليلاً، واستمر على ذلك حتى وقع الطاعون بمصر سنة خمس، ومات ابن له مراهق أحزنه موته، وكذلك ماتت زوجته وأكثر جواريه ومماليكه، ومات إسمعيل بك وأمراؤه ومماليكه ورضوان بك العلوي وبقي هو وحسن بك الجداوي فتجاذبا الإمارة ولم يرض أحدهما بالآخر، فوقع الاتفاق على تأمير عثمان بك طبل تابع إسمعيل بك ظناً منهما أنه يصلح لذلك وأنه لا يمالئ الأعداء، فكان الأمر بخلاف ذلك وكره الإمارة هو أيضاً لمناكدة حسن بك له وراسل الأمراء القبليين سراً حتى حضر وأعلى الصورة المتقدمة، وقصد حسن بك وعلي بك الاستعداد لحربهم وخرجوا الى ناحية طرا وتأهبوا لمبارزتهم، وصار عثمان بك يثبطهما ويظهر لهما أنه يدبر الحيل والمكايد ولم يعلما ضميره ولم يخطر ببالهما ولا غيرهما خيانته. بل كان كل منهما يظن بالآخر حتى حصل ما تقدم ذكره في محله وفر المترجم وحسن بك الى ناحية قبلي، فاستمر هناك مدة ثم انفصل عن حسن بك وسافر من القصير الى بحر القلزم وظلع الى المويلح، وأرسل بعض ثقاته فأخذ بعض الاحتياجات سراً وذهب من هناك الى الشام، واجتمع بأحمد باشا الجزار، ونزل بحيفا وأقام بها مدة راسل الدولة في أمره، فطلبوه إليهم، فلما قرب من اسلامبول أرسلوا إليه من أخذه وذهب به الى برصا، فأقام هناك وعينوا له كفايته في كل شهر، وولد له هناك أولاد ثم أحضروه في حادثة الفرنسيس وأعطوه مراسيم الى ابراهيم باشا ساري عسكر في ذلك الوقت، فلما وصل بيروت راسل أحمد باشا وأراد الاجتماع به وعلم أحمد باشا ما بيده من المرسومات الى ابراهيم باشا فتنكر له وانحرف طبعه منه وأرسل إليه يأمره بالرحيل، وصادف ذلك عزل ابراهيم باشا فارتحل مقهوراً الى نابلس فمات هناك بقهره، وحضر من بقي من مماليكه الى مصر وسكنوا بداره التي بها مملوكه عثمان كاشف وابنته التي تركها بمصر صغيرة وقد كبرت وتأهلت للزواج فتزوج بها خازنداره الذي حضر وهو الى الآن مقيم معها صحبة خشداشينه ببيتها الذي بدرب الحجر. وكان المترجم أميراً لا بأس به يميل الى فعل الخير حسن الاعتقاد ويحب أهل العلم والفضائل ويعظمهم ويكرمهم ويقبل شفاعاتهم، وفيه رقة طبع وميل للخلاعة والتجاهر غفر الله له وسامحه.
ومات أيضاً الأمير أيوب بك الدفتردار وهو من مماليك محمد بك تولى الإمارة والصنجقية بعد موت أستاذه، وقد تقدم ذكره غير مرة، وكان ذا دهاء ومكر ويتظاهر بالانتصار للحق وحب الأشراف والعلماء ويشتري المصاحف والكتب ويحب المسامرة والمذاكرة وسير المتقدمين. ويواظب على اصلاة في الجماعة ويقضي حوائج السائلين والقاصدين بشهامة وصرامة وصدع للمعاند خصوصاً إذا كان الحق بيده، ويتعلل كثيراً بمرض البواسير وسمعت من لفظه رؤيا رآها قبل ورود الفرنسيس بنحو شهرين تدل على ذلك وعلى موته في حربهم.
ولما حصل ذلك وحضروا الى بر انبابة عدى المترجم قبل بيومين وصار يقول إنا بعت نفسي في سبيل الله، فلما التقى الجمعان لبس سلاحه بعدما توضأ وصلى ركعتين وركب في مماليكه. وقال اللهم إني نويت الجهاد في سبيلك، واقتحم مصاف الفرنساوية وألقى نفسه في نارهم. واستشهد في ذلك اليوم وهي منقبة اختص بها دون أقرانه بل ودون غيرهم من جميع أهل مصر.
ومات الأمير صالح بك أمير الحاج في تلك السنة وهو أيضاً من مماليك محمد بك أبي الذهب وتولى زعامة مصر بعد ابراهيم بك الوالي، وأحسن فيها السيرة ولم يتشك منه أحد ولم يتعرض لأحد بأذية، وتقلد أيضاً كتخدا الجاويشية عندما خرج ابراهيم بك مغاضباً لمراد بك. وكان خصيصاً به، فلما اصطلحا ورجع ابراهيم بك وعلي آغا كتخدا الجاويشية تقلد على منصبه كما كان واستمر المترجم بطالاً لكنه وافر الحرمة معدوداً في الأعيان، ولما خرجوا من مصر في حادثة حسن باشا أرسله وخشداشينه الى الروم، وكاد يتم لهم الأمر فقبض عليه حسن باشا وكان إذ ذاك بالعرضي في السفر، ولما رجعوا الى مصر بعد موت إسمعيل بك سكن ببيت البارودي وتزوج بزوجته وهي أم أيوب التي كان سرية مراد بك، ثم سافر ثانياً الى الروم بمراسلة وهدية، وقضى أشغاله ورجع بالوكالة وأخذ بيت الحبانية من مصطفى آغا وعزله من وكالة دار السعادة وسكن بالبيت، واختص بمراد بك اختصاصاً زائداً وبنى له داراً بجانبه بالجيزة وصار لا يفارقه قط، وصار هو بابه الأعظم في المهمات، وكان فصيح اللسان مهذب الطبع يفهم بالإشارة يظن من يراه أنه من أولاد العرب لطلاقة لسانه وفصاحة كلامه ويميل بطبعه الى الخلاعة وسماع الألحان والأوتار ويعرف طرقها ويباشر الضرب عليها بيده، ثم ولي الصنجقية، وتقلد إمارة الحج سنة 1213، وتمم أشغاله وأموره ولوازمه على ما ينبغي، وطلع بالحج في تلك السنة في أبهة عظيمة على القانون القديم في أمن وأمان ورخاء وسخاء، وراج موسم التجار في تلك السنة الى الغاية، وفي أيام غيابه بالحج وصل الفرنساوية الى القطر المصري وطار إليهم الخبر بسطح العقبة وأرسلوا من مصر مكاتبة بالأمان وحضوره بالحج في طائفة قليلة فأرسل إليهم ابراهيم بك يطلبهم الى بلبيس فعرج المترجم بالحاج الى بلبيس وجرى ما تقدم ذكره ولم يزل حتى مات بالديار الشامية وبعد مدة أرسلت زوجته فأحضرت رمته ودفنتها بمصر بتربة المجاورين.
ومات العمدة الفاضل والتحرير الكامل الفقيه العلامة السيد مصطفى الدمنهوري الشافعي، تفقه على أشياخ العصر وتمهر في المعقولات ولازم الشيخ عبد الله الشرقاوي ملازمة كلية. واشتهر بنسبته إليه، ولما ولي مشيخة الأزهر صار المترجم عنده هو صاحب الحل والعقد في القضايا والمهمات والمراسلات عند الأكابر والأعيان، وكان عاقلاً ذكياً وفيه ملكة واستحضار جيد للفروع الفقهية، وكان يكتب على الفتاوي على لسان شيخه المذكور ويتحرى الصواب وعبارته سلسة جيدة، وكان له شغف بكتب التاريخ وسير المتقدمين، واقتنى كتباً في ذلك مثل كتاب السلوك والخلط للمقريزي وأجزاء من تاريخ العيني والسخاوي وغير ذلك، ولم يزل حتى ركب يوماً بغلته وذهب لبعض أشغاله، فلما كان بخطة الموسكي قابله خيال فرنساوي يخج فرسه فجفلت بغلة السيد مصطفى المذكور وألقته من على ظهرها وصادف حافر فرس الفرنساوي أذنه فرض صماخه فلم ينطق ولم يتحرك، فرفعوه في تابوت الى منزله ومات من ليلته رحمه الله.
ومات عبد الله كاشف الجرف وهو عبد إسمعيل كاشف الجرف تابع عثمان بك ذي الفقار الكبير، وكان معروفاً بالشجاعة والإقدام كسيده وأدرك بمصر إمارة وسيادة ونفاذ كلمة. واشترى المماليك الكثيرة والخيول المسومة والجواري والعبيد وعنده عدة من الأجناد والطوائف وعمر داراً عظيمة داخل الدرب المحروق، ولم يزل حتى قتل يوم السبت تاسع صفر بحرب الفرنساوية بانبابة، وكان جسيماً أسود ذا شهامة وفروسية مشهورة وجبروت.